الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده فإن الكلمة لها شأن عظيم في الإسلام ، فبكلمة يدخل المرء في الإسلام وبكلمة يخرج منه، وبكلمة يرضى عنه أو يسخط عليه، تسل السيوف وتدق العناق بكلمات، وتقذف محصنات غافلات مؤمنات بكلمات, تُهدم حصون للفضيلة، وتزرع الهموم الحسرات بكلمات، بكلمات يقال على الله بدون علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السب والشتم والهمز واللمز واللعن والغيبة والنميمة كبائر بكلمات.
وفي المقابل تستيقظ الضمائر, وتحيا المشاعر، وتذرف العيون، وتعلو الهمم بكلمات, إنما هي شجرات طيبات أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وللكلمة خطرها على الإنسان، وسوء عاقبتها على الأعمال، وهذه الحروف التي تتكون منها الكلمات لو قدر كون بعضها سائلاً ثم مزج بماء البحر لأفسده, وحسبك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد ذكرت صفية رضي الله عنهن حسبك من صفية كذا وكذا ـ تعني أنها قصيرة ـ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، لأنه بكلمات يهوي المرء في شقوة الدنيا وسوء المنقلب، ويبتلى بسوء الخاتمة ـ نعوذ بالله من ذلك ـ وإن رمت على ذلك دليلا فدونك حديث أبي هريرة رض الله عنه في الصحيحين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا من رضوان الله يرفعه الله بها درجات في الجنة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم»
قال الله تعالي: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] قال مجاهد في تفسير هذه الآية: " ما من شيء يتكلم به العبد إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه".
أخي طالب طريق الاستقامة من العجب كما يقول ابن القيم : " أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالاً يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل من متورع عن الفواحش ولظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول " ا.هـ الداء والدواء.
ومن أخص سمات المسلم أيها الإخوة سلامة المسلم منه يداً ولساناً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ولله در ابن القيم عليه رحمة الله حين قال : " أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به " ا.هـ الداء والدواء.
البلاء موكل بالقول, ومن تكلم في الناس تُكلم فيه، ومن عاب الناس عِيب، ومن اغتاب الناس اغتيب،ومن سلم منه الناس من شر كلامه كف الناس عنه بكلامهم عليه.
قال بعض السلف: " رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس: فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب، اشتغلوا بعيوب الناس: فصارت لهم عيوب ".
فاحذر أخي أن تقول في أخيك كلمة هو منها برىء لتتشفى منه بهذه الكلمة أو تسعى بها عند ظالم أو فاسق يجني عليه به وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال وليس بخارج» قال في عون المعبود: قال القاضي وخروجه مما قال أن يتوب عنه ويستحل من المقول فيه.
ومن المصائب والمصائب جمة أن يبتلى المرء بصديق له يأمنه على سره، ويعرف منه ما لا يعرف غيره فيغدره بالسعي إلى عدو له لينال بهذا بعض متاع الدنيا وبئس ما فعل وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود وصححه الألباني «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كسي برجل مسلم ثوباً فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة»
ورب كلمة تبدوا صغيرة من قائلها لا يظن أنها ستتعدى المجلس الذي قيلت فيه بل تتعداه وربما وصلت إلى حد القتل. نعوذ بالله من ذلك.
ومن الوقيعة ما قتل: قال الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله: " وكثير من الفتن تبذر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويداً رويداً حتى يستعصى إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها ". ا.هـ حرمة أهل العلم.
وكما قال على رضي الله عنه :
فالجرح جرح اللسان تعلمه *** ورب قول يسيل منه دما
وهاك هذه الشواهد التاريخية التي تدل على أنه "رب قول يسيل منه دم"
قال أبو معبد عبد الله بن عكيم رحمه الله ـ في خطبة له : " لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان " فقال رجل متعجباً: "يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟، فقال أبو معبد إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه.
وعن رشيدالخباز - وكان عبدا صالحا- وقد رآه أبو عبيدة، قال: "خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: يا أبا عبد الله! قدم اليوم حسن وعلي ابنا صالح. قال: وأين هما؟ قال: في الطواف. قال: إذا مرا فأرنيهما. فمر أحدهما، فقلت: هذا علي، ومر الآخر فقلت: هذا حسن. فقال: أما الأول، فصاحب آخرة، وأما الآخر، فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء. قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليا ، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يسلم عليه، فقال له علي: يا أبا عبد الله! ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته؟ ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟، قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: أستغفر الله، وجادتا عيناه ".
و عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: " كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعمة، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة، وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ فقلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هنا! وإنما هو رجل من الناس. قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أُتِيتُم من صاحب الكساء، فإن دعيتم فاستُحْلِفتُم فاحلفوا. قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل عليه، قال: هيه يا رجاء، يُذْكَر أمير المؤمنين، فلا تحتجُّ له؟! قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين، فقلت: أمير المؤمنين رجل من الناس! فقلت: لم يكن ذلك، قال: آلله؟، قلت: آلله.
قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضُرب سبعين سوطاً، فخرجت وهو مُتلوِّث بدمه، فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة. قلت: سبعين سوطاً في ظهرك خير من دم مؤمن. قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول ويتلفت: احذروا صاحب الكساء".
أسأل الله بعزته وقدرته أن يجعل هذه الكلمات في ميزان الحسنات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني حين أدرج في أكفاني، و أن يعيذنا بعد طول الأمل فيه وحسن الظن به من الخيبة والحرمان, وأن لا يستخرج منا إلا ما يرضيه عنا بمنه وكرمه إنه على ذلك قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ونجيه وخليله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه عبد الرحمن الطوخى عبد الرحمن عقل
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف